في صباح يوم مشمس من سبتمبر 2008، استيقظ العالم على خبر صادم:
بنك ليمان براذرز، أحد أعمدة وول ستريت العريقة، أعلن إفلاسه.
لم يكن هذا مجرد سقوط بنك، بل كان إيذانًا بانهيار هز أركان النظام المالي العالمي.
كانت أزمة الرهون العقارية (Subprime Mortgage Crisis) قد بدأت كفقاعة صغيرة في سوق العقارات الأمريكية، لكنها سرعان ما تحولت إلى إعصار اقتصادي اجتاح الدول المتقدمة والنامية على حد سواء.
تعال معي في هذا الجزء من كتاب لعبة المال أشرح لك كيف وصل النظام المالي العالمي لهذه الهاوية، وكيف أدت هذه الكارثة المالية إلى ميلاد عصر جديد من المال.
يمكنك أن تبدأ بقراءة ما تم نشره حتى الآن من كتاب لعبة المال من تأليف م/ محمد حسن:
لماذا لا نتعلم شيئا في مدارسنا عن المال
ما بعد صدمة نيكسون
مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، أصبح العالم أكثر إدراكًا للثغرات والفساد الذي يشوب النظام المالي التقليدي.
من سبعينات القرن الماضي مر العالم بأزمات مالية كبيرة، وشهد ارتفاع مهول للتضخم، الأمر الذي يأكل ثروات الناس ويقضي على أحلامهم، ناهيك عن أزمات مالية ضخمة تبدأ عادة في أمريكا ثم يتم تصديرها للعالم كله بسبب هيمنة الدولار على النظام العالمي.
فقاعة الدوت كوم
في أواخر التسعينيات، أضاءت الإنترنت سماء العالم بوعود ثورة رقمية لا مثيل لها.
كان الجميع، من صغار المستثمرين إلى عمالقة وول ستريت، مفتونين بإمكانيات هذا العالم الجديد.
شركات الإنترنت، أو ما عُرف بـ"شركات الدوت كوم"، تحولت إلى نجوم سوق الأسهم، حيث تضخمت قيمتها بسرعة مذهلة، غالبًا دون أن تحقق أرباحًا حقيقية. قصة شاب في مرآب بكاليفورنيا يطلق شركة إنترنت ويصبح مليونيرًا بين عشية وضحاها، ألهمت الملايين للمراهنة على هذا الحلم.
لكن بحلول عام 2000، بدأت الفقاعة تنفجر، تاركة وراءها أنقاض استثمارات بمليارات الدولارات، وكاشفة عن حقيقة قاسية: ليس كل ما يلمع ذهبًا في عالم المال.
بداية الأزمة
بعد انفجار فقاعة الدوت كوم في أوائل القرن الحادي والعشرين، هرب المستثمرون من أنقاض الإنترنت إلى ملاذ آمن بدا وكأنه لا يمكن أن يخذل: العقارات.
كان الحلم الأمريكي بامتلاك منزل يلوح في الأفق لكل عائلة، من شوارع نيويورك الصاخبة إلى ضواحي كاليفورنيا الهادئة. لكن هذا الحلم لم يكن رخيصًا. إذ أن هذه العقارات لابد لها من تمويل، وعادة ما يتم تمويل هذه البيوت بــ رهون عقارية.
في البداية كانت هذه القروض مقصورة على القادرين على السداد، لكن جشع البنوك مرة أخرى بدء يوسع دائر الإقراض لتشمل من ليس لديه قدرة على الاستمرار في السداد.فبدأت البنوك تقدم قروضًا عقارية لمن هم على حافة القدرة المالية، بل وحتى لمن لا يملكون أي قدرة على السداد.
ولم يكتفوا بذلك، بل قاموا بتجميع هذه القروض المتعثرة في أدوات مالية معقدة، باعتها كاستثمارات "آمنة" للمستثمرين حول العالم.
تم تجميع هذه القروض في أدوات مالية معقدة، بيعت لمستثمرين في جميع أنحاء العالم، من نيويورك إلى طوكيو، ومن لندن إلى دبي.
لكن عندما بدأ المقترضون في التخلف عن السداد، انهارت هذه الأدوات كأوراق الخريف، كاشفة عن هشاشة النظام المالي العالمي القائم على الدولار.
الانهيار الأكبر في التاريخ
في صيف 2007، بدأت الشقوق الأولى تظهر في واجهة الحلم الأمريكي. عائلات كثيرة وجدت نفسها غارقة في ديون تفوق قدرتها على السداد. وعندما بدأ المقترضون في التخلف عن السداد، انكشف المستور.
هرعت البنوك لتصفية العقارات المرهونة، آملة في استرداد أموالها، لكن هذا الزخم العارم للبيع أغرق السوق، فانهارت أسعار العقارات كالأحجار في هاوية. بيوت كانت تُقدر بمئات الآلاف أصبحت فجأة لا تساوي نصف قيمة القروض الممنوحة عليها.
هذه "البيوت الغارقة"، كما أُطلق عليها، لم تكن مجرد أزمة لأصحابها، بل كانت شرارة أشعلت حريقًا ماليًا عالميًا، كشف عن هشاشة نظام بني على الجشع والافتراضات الواهمة، مهددًا بجر العالم بأسره إلى هاوية الانهيار الاقتصادي.
خسر ملايين الأشخاص وظائفهم، وفقدت عائلات بيوتها، وتهاوت أسواق الأسهم. في غضون أشهر، انتشرت الأزمة كالنار في الهشيم، من وول ستريت إلى شوارع آسيا وأوروبا وأفريقيا. وكان انهيار بنك ليمان براذرز الذي بدأنا به هذه المقالة.
كانت هذه لحظة تاريخية كشفت النقاب عن حقيقة مؤلمة: النظام المالي الذي يعتمد على هيمنة الدولار، والذي يديره عدد قليل من البنوك المركزية والمؤسسات المالية الكبرى، ليس فقط عرضة للانهيار، بل قد يكون مصممًا لخدمة مصالح النخبة على حساب الشعوب.
ميلاد العملات الرقمية
وسط هذا الخراب، وُلدت فكرة ثورية. في عام 2009، ظهرت ورقة بحثية غامضة تحمل توقيع "ساتوشي ناكاموتو"، شخصية أو مجموعة مجهولة الهوية.
هذه الورقة لم تقدم مجرد عملة جديدة، بل طرحت رؤية لنظام مالي لا مركزي، يعتمد على تقنية البلوك تشين، ويحمل اسم "بيتكوين".
لم تكن البيتكوين مجرد رد فعل على الأزمة فقط؛ بل كانت صرخة تمرد ضد نظام مالي أثبت فشله. كانت دعوة لإعادة القوة إلى الأفراد، بعيدًا عن قبضة البنوك المركزية وسياسات طباعة النقود بلا غطاء.
فما هي البيتكوين؟
وكيف وعدت بنظام مالي عالمي جديد يعطي القوة مرة أخرى للأفراد على حساب المؤسسات؟
تابع معي المقالة القادمة من كتاب لعبة المال على نشرة رفاهـ البريدية